قال تعالى:
" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ "
(الأحقاف-15)
الأم العربية
لقد كانت المرأة العربية القديمة مدرسة فعلاً فهي تسمع أطفالها منذ نعومة
أظفارهم الكلمات الفصيحة، ليتذوقوها، ويناموا على موسيقاها، وتبعد عن أسماعهم
الكلمات النابية.
كانت المرأة العربية تغرس في أولادها القيم المتوارثة، تلك "المثل العليا
الاخلاقية والاجتماعية للإنسان العربي في الجاهلية. ومنهـا الحلم والصبر والعفو عند
المقدرة والكرم" وغيرها. وكانت تعلم أولادها آداب السلوك في البيت وخارجه، وتقول
لسانهم، وتفصح بيانهم، وتعلمهم التواضع واحترام الآخرين.
فقد تعلم حاتم الطائي الكرم من أمه التي كانت المثل الأعلى في العطاء والسخاء،
وهي عتبة بنت عفيف "لا تدخر شيئاً، ولا يسألها أحد شيئاً فتمنعه" حتى حجر عليهـا
إخوتها "ومنعوها مالها، فمكثت دهراً لا يدفع إليهـا شيء منه، حتى إذا ظنوا أنها قد
وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلهـا، (أي قطعة من الإبل ما بين العشر إلى الثلاثين،
أو إلى الخمسين والأربعين..) فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيهـا في كل سنة
تسألها، فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها، فو الله لقد عضني من الجوع ما لا أمنع
معه سائلا أبداً.ولاشك أن وصية الأم لابنتها قبل زواجها هي نموذج حي لما تزرعه الأم في نفس
ابنتها من قيم موروثة، للعناية ببيت الزوجية وحماية الأسرة من التشرد والتشتت..
ولعل وصية أمامة بنت الحارث زوج عوف بن محلم الشيباني، لابنتها قبل زواجها من عمرو
بن حجر خير مثل يقتدى به في تاريخنا العربي القديم، قالت لها: "أي بنية إنك فارقت
بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي فيه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له
أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً أما الأولى والثانية
فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لموضع
عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولايشم منك إلا أطيب ريح وأما الخامسة
والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوع مغضبة وأما
السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال
حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا
تفشين له سراً فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك
والفرح بين يديه إذا كان مهتماً والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً، فولدت له الحارث
بن عمرو جد امرئ القيس الشاعر.
مرضعة ثقافية
أما التربية الفكرية فللأم دور كبير في تغذية الفكر وتوسيعه منذ نشأة الطفل،
منها التربية الفكرية الدينية التي يكتسبها الطفل من الأم ويتأثر بها، ويأخذ من أمه
البدع والخرافات التي تؤمن بها فتنقلها إليه، ومنها تعلم الطفل وتطور، يتأثر إلى حد
بعيد بما غرسته أمه في فكره منذ طفولته وانشأته كما يقول المثل: من شب على شيء شاب
عليه. لقد كانت الأم في المجتمع العربي الجاهلي ذات أثر كبير في تكوين ثقافة
الأبناء، وهي المصدر الأول لبنيتهم الفكرية، وخاصة اللغة والبيان، فما يتعلمه الطفل
من أمه يرسخ في ذهنه، ولذا كان العرب القدماء يرسلون أبناءهم إلى البادية ليتعلموا
اللغة الصحيحة.. ولعل محمداً صلى الله عليه وسلم خير دليل على ذلك، فقد أرسله جده
إلى البادية ليتلقى اللغة الفصحى البعيدة عن الشوائب، وكان رسول الله (ص)يرجع
فصاحتة المعجزة إلى منبته في قريش واسترضاعه في بني سعد، وهو الذي يقول: "أنا
أعربكم ولدت في قريش واسترضعت في بني سعد". وقال له أبوبكر رضي الله عنه: ما رأيت
أفصح منك يا رسول الله. فقال: "ما يمنعني! ولدت في قريش وأرضعت في بني سعد".
ولكن التربية العملية التي تقوم بها الأم في تزويد أبنائها لجعلهم قادرين على
ممارسة أعمالهم المستقبلية هي متممة وأساسية. فالطفل الذي ينشأ في بيت منسق نظيف،
ويتذوق الطعام الشهي.. لا يتخلى عن ذلك كله بل ينقله معه إلى أولاده.. فقد اعتاد
رؤية أمة تعد المائدة، والطعام، وتنظف البيت، وتستقبل الضيف مرحبة به، وفي أوقات
فراغها تدرب ابنتها على القيام بأعمال تطريز وخياطة أو رسم ونحت وموسيقى، وغير ذلك
مما يوجه الفتاة إلى أشياء نافعة لاتستغني عنها، تستفيد منها في مستقبلها لتزين
بيتها وتملأ فراغها.. والأم هي التي توجه فتاها منذ صغره ليعمل أعمالاً تنفعه في
مستقبله إلى جانب علمه..
لقد كان في الماضي دور الأب في توعية ابنه، ولكن دور الأب قد أخذته الأم في حياتنا
المعاصرة، في توجيه ابنها ليمضي فراغه في أشياء نافعة له من.. تجارة أو حدادة أو
رسم أو نحت وما إلى ذلك.. لتنمي ميوله التي تنتبه إليها، فعلى الغالب الأب بعيد عن
البيت أكثرالأحيان، والأم هى القائدة والموجهة للبيت.. إن الأم هي المسئول الأول عن
تربية الأطفال، "لو كانت تملك العديد من الإماء والعبيد، فقد كان يعير الولد أو
البنت بأن تربيتهما كانت من عمل الإماء. وفي ذلك يتفاخر عمرو بن العاص فيقول: "ولا
تأبطتني الإماء، ولا حملتني البغايا في غبرات المآلى
الأم المعاصرة
لو أجرينا تجارب وإحصاءات لوجدنا أن دور الأم لم يتغير، ولن يتبدل منذ وجدت
الخليقة حتى اليوم، ولكن الأم العربية المعاصرة حاولت أن تتملص من دورها العظيم
الذي وهبت له ، فهي غالباً تطلب ولا تعطي، ولعل الأنانية التي وصلت بالإنسان
المعاصر إلى ذروتها، كانت الأم قد أخذتها كلها تقريباً. لا أنكر أن هناك أمهات
يشغلن أوقاتهن وتفكيرهن، ويعطين أقصى جهدهن لتأمين السعادة لأسرهن.. وهناك الأمهات
اللواتي. لايهتممن بتوجيه أولادهن، ويصررن على أن الأساس في توجيه الفتى هو الأب
وأن المدرسة هي المسئولة عن توجيه الجنسين معاً. وهناك فئة أخرى تشغلها عن توجيه
أبنائها ملذات الحياة، ربما أنها لم تجد العناية والتوجيه من أمهاتها من قبل.
إن دور الأم هو الأساس في كل المجتمعات المتطورة والمتخلفة.. وليس هناك فرق بين
أم مثقفة وأم جاهلة. كل واحدة منهما لها دور مميز في توجيه الطفل. ولو حاولنا أن
نستقصي الأسباب التي أدت إلى الانهيار التربوي في مجتمعاتنا الحديثة.. لوجدنا أن
الأم هي المسئولة عن ذلك فهناك أمهات تؤمن بالبدع والخرافات، والتقاليد البالية
التي تحاول أن تفرضها على أولادهن الذين يعيشون عالماً مختلفاً عن عالمها.. ومن هذه
النقطة تبدأ المشكلة وتتسع فينسلخ الطفل عن بيئته وأمه، وينساب في طريق مؤدية
لانحرافه أو لتماسكه، ومهما حاول الطفل أن ينسلخ عن بيئته فلن يستطيع ذلك، لأنه نشأ
فيها، وتعلم بدايات إدراكه منها.. فلذلك كان للأم الدور المهم في توجيه الطفل، فهي
تورثه وتكسبه تربية وتوجيهاً سيئاً أو جيداً.